فصل: قال الشنقيطي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



نعم ذكر العلامة ابن حجر وغيره أنه يشترط في تقليد الغير أن يكون مذهبه مدونًا محفوظ الشروط والمعتبرات فقول السبكي: إن مخالف الأربعة كمخالف الإجماع محمول على ما لم يحفظ ولم تعرف شروطه وسائر معتبراته من المذاهب التي انقطع حملتها وفقدت كتبها كمذهب الثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى وغيرهم، ثم إن تقليد الغير بشرطه إنما يجوز في العمل وأما للإفتاء والقضاء فيتعين أحد المذاهب الأربع، واستشكل الفرق العلامة ابن قاسم العبادي، وأجيب بأنه يحتمل أن يكون الفرق أنه يحتاط فيهما لتعديهما ما لا يحتاط في العمل فيتركان لأدنى محذور ولو محتملًا، ونظير ذلك ما ذكره بعض الشافعية في القولين المتكافئين أنه لا يفتي ولا يقضي بكل منهما لاحتمال كونه مرجوحاف ويجوز العمل به؛ وذكر الإمام أن من الناس من جوز التقليد للمجتهد لهذه الآية فقال: لما لم يكن أحد المجتهدين عالمًا وجب عليه الرجوع إلى المجتهد العالم لقوله تعالى: {فاسألوا} الآية فإن لم يجب فلا أقل من الجواز، وأيد ذلك بأن بعض المجتهدين نقلوا مذاهب بعض الصحابة وأقروا الحكم عليها، والصحيح ما سمعت أولًا، وما ذكر ليس بتقليد بل هو من باب موافقة الاجتهاد الاجتهاد، واحتج بها أيضًا نفاة القياس فقالوا: المكلف إذا نزلت به واقعة فإن كان عالمًا بحكمها لم يجز له القياس وإلا وجب عليه سؤال من كان عالمًا بها بظاهر الآية ولو كان القياس حجة لما وجب عليه السؤال لأجل أنه يمكنه استنباط ذلك الحكم بالقياس، فثبت أن تجويز العمل بالقياس يوجب ترك العمل بظاهر الآية فوجب أن لا يجوز.
وأجيب بأنه ثبت جواز العمل بالقياس بإجماع الصحابة والإجماع أقوى من هذا الدليل.
وقال بعضهم: إذا كان المكلف ممن يقدر على القياس كان ممن يعلم فلا يجب عليه السؤال فتأمل.
{بالبينات والزبر} أي بالمعجزات والكتب، والأولى للدلالة على الصدق، والثانية لبيان الشرائع والتكاليف.
وانحرف عن الحق من فسرهما بما هو مصطلح أهل الحرف.
والجار والمجرور متعلق بمقدر يدل عليه ما قبله وقع جوابًا عن سؤال من قال: بم أرسلوا؟ فقيل: أرسلوا {بالبينات والزبر}.
وجوز الزمخشري والحوفي تعلقه بأرسلنا السابق داخلًا تحت حكم الاستثناء مع {رِجَالًا} [النحل: 43]. أي وما أرسلنا إلا رجالًا بالبينات وهو في معنى قولك: ما أرسلنا جماعة من الجماعات بشيء من الأشياء إلا رجالًا بالبينات، ومثله ما ضربت إلا زيدًا بسوط، وهو مبني على ما جوزه بعض النحاة من جواز أن يستثنى بأداة واحدة شيآن دون عطف وأنه يجري في الاستثناء المفرغ، وأكثر النحاة على منعه كما صرح به صاحب التسهيل وغيره.
وقال في الكشف: والحق أنه لا يجوز لأن إلا من تتمة ما دخلت عليه كالجزء منه وللزوم الإلباس.
أو وجوب أن يكون جميع ما يقع بعد إلا محصورًا وأن يجب نحو ما ضرب إلا زيدًا عمرًا إذا أريد الحصر فيهما ولا يكون فرق بين هذا وذاك، وكل ذلك ظاهر الانتفاء.
والزمخشري جوز ذلك وصرح به في مواضع من كشافه، واستدل عليه بأن أصل ما ضربت إلا زيدًا بسوط ضربت زيدًا بسوط وأراد أن زيادة ما وإلا ليست إلا تأكيدًا فلتؤكد لما كان أصل الكلام عليه، وهو حسن لولا أن الاستعمال والقياس آبيان، وقال بعضهم: إنه متعلق به من غير دخوله مع {رجالًا} [النحل: 43]. تحت حكم الاستثناء على أن أصله وما أرسلنا بالبينات والزبر إلا رجالًا.
وتعقب بأنه لا يجوز على مذهب البصريين حيث لا يجيزون أن يقع بعد إلا إلا مستثنى أو مستثنى منه أو تابعًا وما ظن من غير الثلاثة معمولًا لما قبل إلا قدر له عامل، وأجاز الكسائي أن يقع معمولًا لما قبلها منصوب كما ضرب إلا زيد عمرًا، ومخفوض كما مر إلا زيد بعمرو ولا يعذب إلا الله بالنار، ومرفوع كما ضرب إلا زيدًا عمرو، ووافقه ابن الأنباري في المرفوع، والأخفش في الظرف والجار والحال، فما ذكر مبني على مذهب الكسائي والأخفش، لكن قال الشهاب: إنه خلاف ظاهر الكلام وإخراج له عن سنن الانتظام وأكثر النحاة على أنه ممنوع، وجوز أن يكون متعلقًا بما رفع صفة لرجالًا أي رجالًا ملتبسين بالبينات ولم يقع حالًا منه، قيل: لأنه نكرة متقدمة، نعم قيل: بجواز وقوعه حالًا من ضمير الرجال في {إِلَيْهِمُ} [النحل: 43]، وقيل: يجوز كونه حالًا من {رِجَالًا} [النحل: 43]. لأنه نكرة موصوفة، واختار أبو حيان مجيء الحال من النكرة بلا مسوغ كثيرًا قياسًا ونقله عن سيبويه وإن كان دون الاتباع في القوة.
وجوز أيضًا تعلقه بنو حي وقوله سبحانه: {فَاسْئَلُواْ أَهْلَ الذكر} [النحل: 43]. اعتراض على الوجوه المتقدمة أو غير الأول، وتصدير الجملة المعترضة بالفاء صرح به في التسهيل وغيره، وما نقل من منعه ليس بثبت، ثم إذا كان اعتراضًا متخللًا بين مقصوري حرف الاستثناء معناه فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون أنا أرسلنا رجالًا بالبينات وعلى الوصفية إن كنتم لا تعلمون أنهم رجال متلبسون بالبينات، وعلى هذا يقدر الاعتراض مناسبًا لما تخلل بينهما، وأشبه الأوجه أن يكون على كلامين ليقع الاعتراض موقعه اللائق به لفظًا ومعنى قاله في الكشف.
وجوز أن يتعلق بتعلمون فلا اعتراض، وفي الشرط معنى التبكيت والإلزام كما في قول الأجير: إن كنت عملت لك فأعطني حقي، فإن الأجير لا يشك في أنه عمل وإنما أخرج الكلام مخرج الشك لأن ما يعامل به من التسويف معاملة من يظن بأجيره أنه لم يعمل، فهو في ذلك يلزمه مقتضى ما اعترف به من العمل ويبكته بالتقصير مجهلًا إياه، فكذا ما هنا لا يشك أن قريشًا لم يكونوا من علم البينات والزبر في شيء فيقول: إن كون الرسل عليهم السلام رجالًا أمر مكشوف لا شبهة فيه فاسألوا أهل الذكر إن لم تكونوا من أهله يبين لكم يريد أن إنكاركم وأنتم لا تعلمون ليس بسديد وإنما السبيل أن تسألوا من أهل الذكر لا أن تنكروا قولهم، فإنكاركم مناف لما تقتضيه حالكم من السؤال فهو تبكيت من حيث الاعتراف بعدم العلم وسبيل الجاهل سؤال من يعلم لا إنكاره، قاله في الكشف أيضًا، ثم قال: ولا أخص أهل الذكر بأهل الكتابين ليشمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولو خص لجاز لأنهم موافقون في ذلك فإنكارهم إنكارهم، ثم التبكيت متوجه إلى العدول عن السؤال إلى الإنكار سألوا أولًا انتهى.
ومنه يعلم جواز أن يراد بأهل الذكر أهل القرآن، وما ذكره أبو حيان في تضعيفه من أنه لا حجة في إخبارهم ولا إلزام ناشىء من عدم الوقوف على هذا التحقيق الأنيق، وهذا ظاهر على تقدير تعلق {بالبينات} بيعلمون والباء على هذا التقدير سببية والمفعول محذوف عند بعض، وزعم آخر أنها زائدة والبينات هي المفعول، فافهم ذاك، والله تعالى يتولى هداك {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر} أي القرآن وهو من التذكير إما بمعنى الوعظ أو بمعنى الإيقاظ من سنة الغفلة وإطلاقه على القرآن إما لاشتماله على ما ذكر أو لأنه سبب له، ومنه يعلم وجه تسمية التوراة ونحوها ذكرًا، وقيل: المراد بالذكر العلم وليس بذاك {لِتُبَيّنَ لِلنَّاسِ} كافة ويدخل فيهم أهل مكة دخولًا أوليًا {مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ} في ذلك الذكر من الأحكام والشرائع وغير ذلك من أحوال القرون المهلكة بأفانين العذاب حسب أعمالهم مع أنبيائهم عليهم السلام الموجبة لذلك على وجه التفصيل بيانًا شافيًا كما ينبىء عنه صيغة التفعيل في الفعلين لاسيما بعد ورود الثاني أولًا على صيغة الأفعال، وعن مجاهد أن المراد بهذا التبيين تفسير المجمل وشرح ما أشكل إذ هما المحتاجان للتبيين، وأما النص الظاهر فلا يحتاجان إليه.
وقيل: المراد به إيقافهم على حسب استعداداتهم المتفاوتة على ما خفي عليهم من أسرار القرآن وعلومه التي لا تكاد تحصى، ولا يختص ذلك بتبيين الحرام والحلال وأحوال القرون الخالية والأمم الماضية، واستأنس له بما أخرجه الحاكم وصححه عن حذيفة قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقامًا أخبرنا فيه بما يكون إلى يوم القيامة عقله منا من عقله ونسيه من نسيه، وهذا في معنى ما ذكره غير واحد أن التبيين أعم من التصريح بالمقصود ومن الإرشاد إلى ما يدل عليه، ويدخل فيه القياس وإشارة النص ودلالته وما يستنبط منه من العقائد والحقائق والأسرار الإلهية، ولعل قوله عز وجل: {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} إشارة إلى ذلك أي وطلب أن يتأملوا فينتبهوا للحقائق وما فيه من العبر ويحترز عما يؤدي إلى ما أصاب الأولين من العذاب، وقال بعض المعتزلة: أي وإرادة أن يتفكروا في ذلك فيعلموا الحق ثم قال، وفيه دلالة على أن الله تعالى أراد من جميع الناس التفكر والنظر المؤدي إلى المعرفة بخلاف ما يقول أهل الجبر، ونحن في غنى عن تقدير الإرادة بتقدير الطلب، ومن قدرها منا أراده منها، وإلا ورد عليه عدم تأمل البعض ولعله الأكثر، وهي لا ينفك المراد عنها على المذهب الحق فلابد من العدول عنه إلى مقابله، وقيل: أراد تعلقها بالبعض وهو المتأمل لا بالكل، وأيد بعضهم إرادة الصحابة أو ما يشملهم والنبي صلى الله عليه وسلم من أهل الذكر فيما تقدم بذكر هذه الآية بعده وليس بذي أيد. اهـ.

.قال صاحب روح البيان:

قوله تعالى: {وما أرسلنا مِن قَبْلِكَ} أي: الأمم الماضية {إِلا رِجَالا} آدميين لا ملكًا وقوله تعالى: {جَاعِلِ الملائكة رُسُلا} [فاطر: 1] أي: إلى الملائكة أو إلى الأنبياء ولا امرأة إذ مبني حالها على الستر والنبوة تقتضي الظهور ولا صبيًا ونبوة عيسى في المهد لا تنافيه إذ الرسالة أخص.
قال ابن الجوزي اشتراط الأربعين في حق الأنبياء ليس بشيء.
{نُّوحِى إِلَيْهِمْ} على ألسنة الملائكة في الأغلب وأكثر الأمر وفيه إشارة إلى أن الرسالة والنبوة والولاية لا تسكن إلا في قلوب الرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا يبيع عن ذكر الله:
نه هركس سزاوار باشد بصدر ** كرامت بفضلست ورتبت بقدر

{فسْاَلُوا} أي: فإن شككتم في ذلك فاسألوا يا معشر قريش {أَهْلَ الذِّكْرِ} علماء أهل الكتاب ليخبروكم أن الله تعالى لم يبعث إلى الأمم السالفة إلا بشرًا وكانوا يشاورونهم في بعض الأمور ولذلك أحالهم إلى هؤلاء للإلزام {إِن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ذلك.
وفي الآية إشارة إلى وجوب المراجعة إلى العلماء فيما لا يعلم.
وسئل الإمام الغزالي رحمه الله: من أين حصل لك الإحاطة بالعلوم أصولها وفروعها فتلا هذه الآية أي: أفاد أن ذلك العلم الكلي إنما حصل باستعلام المجهول من العلماء وترك العار وقد ورد {الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها} يعني ينبغي للمؤمن أن يطلب الحكمة كما يطلب ضالته.
{بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} بالمعجزات والكتب والباء متعلقة بمقدر وقع جوابًا عن سؤال من قال بم أرسلوا فقيل: أرسلوا بالبينات والزبر.
والبينات جمع بينة وهي الواضحة.
والزبر جمع زبور وهو الكتاب بمعنى المزبور أي: المكتوب {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ} أي: القرآن إنما سمي به لأنه تذكير وتنبيه للغافلين.
يعني أنه سبب الذكر فاطلق عليه المسبب {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} كافة العرب والعجم {مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} في ذلك الذكر من الأحكام والشرائع وغير ذلك من أحوال القرون المهلكة بأفانين العذاب حسب أعمالهم الموجبة لذلك على وجه التفصيل بيانًا شافيًا كما ينبىء عنه صيغة التفعيل في الفعلين.
{وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} التفكر تصرف القلب في معاني الأشياء لدرك المطلوب أي وإاردة أن يجيلوا فيه أفكارهم فيتنبهوا للحقائق وما فيه من العبر ويحترزوا عما يؤدي إلى مثل ما أصاب الأولين من العذاب.
وفي التأويلات النجمية: ولعلهم أي: وفي إنزال الذكر إليك حكمة أخرى وهي لعل الناس يتفكرون فيما يسمعون من بيان القرآن والأحكام منك على أنك أمي ما قرأت الكتب المنزلة ولا تعلمت العلوم وإنما تبين لهم من نور الذكر فيلازمون الذكر ويواظبون عليه ليصلوا إلى مقام المذكورين في متابعتك ورعاية سنتك.
ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلّم عن جلاء القلب قال: «ذكر الله وتلاوة القرآن والصلاة عليّ» ولا شك أن خير الأذكار كلمة التوحيد.
قال إبراهيم الخواص رحمه الله: دواء القلب خمسة: قراءة القرآن بالتدبر، وخلاء البطن، وقيام الليل، والتضرع إلى الله عند السحر، ومجالسة الصالحين.
وفي أبكار الأفكار أفضل الذكر قراءة القرآن فإنها أفضل من الدعوة الغير المأثورة.
وأما المأثورة فقيل: إنها أفضل منها وقيل: القراءة أفضل انتهى.
وفي نفائس المجالس مما يجب فيه التدبر والتذكر قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا} [التوبة: 34] فالله تعالى أمر المؤمنين بالإيمان أي: بتكرار عقد القلب وتجديده كما ورد: «جددوا إيمانكم بقول لا إله إلا الله».
قال بعض الكبار: قد علم بحديث التجديد أن الإيمان يقبل البلى وذلك بزوال الحب وتجديده بالتوحيد وكلمة التوحيد مركبة من النفي والإثبات فبنفي ما سوى المعبود وإثبات ما هو المقصود يصل الموحد إلى كمال الشهود وحصول ذلك بنور التلقين والكينونة التامة مع الصادقين كما قال تعالى: {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] والكينونة صورية وهي بملازمة أهل الصدق ومجالستهم ومعنوية وهي باتخاذ الأسرار وتحصيل المناسبة المعنوية فلابد من الارتباط بواحد من الصادقين:
واعلم أن التبيين حق أهل الدعوة والإرشاد إذ ليس عليهم إلا البلاغ المبين والعمل بموجب الدعوة على العباد إذ ليس عليهم إلا قبول ما جاء من طرف النبي الأمين فإذا قبلوا ذلك ورجعوا في المشكلات إليه أو إلى وارث من ورثته الكمل علموا ما لم يعلموا ووصلوا إلى كمال العلم والعمل وحصلوا عند المقصود من نزول القرآن فطوبى لهم فلهم درجات الجنان ورؤية المنان. اهـ.

.قال الشنقيطي:

{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه لم يرسل قبله صلى الله عليه وسلم من الرسل إلا رجالًا، أي لا ملائكة، وذلك أن الكفار استغربوا جدًا بعث الله رسلًا من البشر، وقالوا: الله أعظم من أن يرسل بشرًا يأكل الطعام ويمشي في الأسواق. فلو كان مرسلًا أحدًا حقًا لأرسل ملائكة كما بينه تعال في آيات كثيرة، كقوله: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ الناس} [يونس: 2]، وقوله: {بَلْ عجبوا أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ} [ق: 2]. الآية، وقوله: {وَقَالُواْ مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق} [الفرقان: 7]، وقوله: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَاءهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَرًا رَّسُولًا} [الإسراء: 94]، وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات فقالوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ واستغنى الله} [التغابن: 6]. الآية، وقوله: {أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ} [القمر: 24]. الآية، وقوله: {فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاء الله لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً مَّا سَمِعْنَا بهذا في آبَآئِنَا الأولين} [المؤمنون: 24]، وقوله: {وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِهِ الذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِلِقَاء الآخرة وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الحياة الدنيا مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ} [المؤمنون: 33-34]، وقوله: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي الله شَكٌّ فَاطِرِ السماوات والأرض يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى قالوا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} [إبراهيم: 10]. الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد بين الله جل وعلا في آيات كثيرة: أن الله ما أرسل لبني آدم إلا رسلًا من البشر، وهم رجال يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، ويتزوجون، ونحو ذلك من صفات البشر. كقوله هنا: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالًا نوحي إِلَيْهِمْ فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالًا نوحي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ القرى} [يوسف: 109]، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِي الأسواق} [الفرقان: 20]، وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالًا نوحي إِلَيْهِمْ فاسئلوا أَهْلَ الذكر إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ} [الأنبياء: 8]، وقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً} [الرعد: 38]، وقوله: {قُلْ مَا كُنتُ بِدْعًا مِّنَ الرسل} [الأحقاف: 9]. الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
وقرأ جمهور القراء هذا الحرف: {يوحى إليهم} بالياء المثناة التحتية، وفتج الحاء مبنيًا للمفعول، وقرأه حفص عن عاصم: {نوحي إليهم} بالنون وكسر الحاء مبنيًا للفاعل، وكذلك قوهل في آخر سورة يوسف {إلا رجالًا يوحى إليهم من أهل القرى}، وأول الأنبياء {إلا رجالًا يوحى إليهم فاسألوا أهل الذكر} الآية. كل هذه المواضع قرأ فيها حفص وحده بالنون وكسر الحاء، والباقون بالياء التحتية وفتح الحاء أيضًا وأما الثانية في سورة الأنبياء وهي قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ} [الأنبياء: 25]. الآية. فقد قرأه بالنون وكسر الحاء حمزة والكسائي وحفص والباقون بالياء التحتية وفتح الحاء أيضًا، وحصر الرسل في الرجال في الآيات المذكورة لا ينافي أن من الملائكة رسلًا. كما قال تعالى: {الله يَصْطَفِي مِنَ الملائكة رُسُلًا وَمِنَ الناس} [الحج: 75]، وقال: {الحمد للَّهِ فَاطِرِ السماوات والأرض جَاعِلِ الملائكة رُسُلًا} [فاطر: 1]. الآية. لأن الملائكة يرسلون إلى الرسل، والرسل ترسل إلى الناس، والذي أنكره الكفار هو إرسال الرسل إلى الناس، وهو الذي حصر اله فيه الرس في الرجال من الناس. فلا ينافي إرسال الملائكة للرُّسل بالوحي، ولقبض الأرواح، وتستخير الرِّياح والسَّحاب، وكتب أعمال بني آدم، وغير ذلك. كما قال تعالى: {فالمدبرات أَمْرًا} [النازعات: 5].
تنبيه:
يفهم من هذه الآيات أن الله لم يرسل امرأة قط. لقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالًا}، ويفهم من قوله: {فاسألوا أَهْلَ الذكر} الآيه- أن من جهل الحكم: يجب عليه سؤال العلماء والعمل بما أفتوه به، والمراد بأهل الذكر في الآية: أهل الكتاب، وهذه الأمة أيضًا يصدق عليها أنه أهل الذكر. لقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر} [الحجر: 9]. الآية. إلا أن المراد في الآية أهل الكتاب، والباء في قوله: {بالبينات والزبر} [النحل: 44]. قيل: تتعلق ب {ما أرسلنا} داخلًا تحت حكم الاستثناء مع {رجالًا} أي وما أرسلنا إلاّ رجالًا بالبينات، كقولك: ما متلبسين بالبينات، وقيل: تتعلق ب {أرسلنا} مضمرًا دل عليه ما قبله. كأنه قيل: بم أرسولا؟ قيل: بالبينات، وقيل: تتعلق ب، {نوحي} إليهم بالبينات. قاله صاحب الكشاف، والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}.
المراد بالذكر في هذه الآية: القرآن. كقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9].
وقد ذكر جل وعلا في هذه الآية حكمتين من حكم إنزال القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم.
إحداهما- أن يبين للناس ما نزل إليهم في هذا الكتاب من الأوامر والناهي، والوعد والوعيد، ونحو ذلك، وقد بين هذه الحكمة في غير هذا الموضع أيضًا. كقوله: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الذي اختلفوا فِيهِ} [النحل: 64]، وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس} [النساء: 105]. الآية.
الحكمة الثانية- هي الالتفكر في آياته والاتعاظ بها. كما قال هنا: {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}، وقد بين هذه الحكمة في غير هذا الموضع أيضًا. كقوله: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ليدبروا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُو الألباب} [ص: 29]، وقوله: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيرًا} [النساء: 82]، وقوله: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} [محمد صلى الله عليه وسلم: 24]، إلى غير ذلك من الآيات. اهـ.